التعليم في عصر ثورة الإتصالات لصالح من؟
التعليم في عصر ثورة الاتصالات
يتفق الجميع اليوم بما في ذلك البرجوازية على أن التعليم والتعلّم ضرورة إنسانية وعملية يحتاجها كل إنسان وتحتاجها كل المجتمعات وحقّ من الحقوق الأساسية لكل إنسان.إلا أن هذا الاتفاق سرعان ما يصبح واهيا ويتحوّل إلى اختلاف عند تحديد محتويات هذا التعليم والهدف منه. ففي حين يعتبره المستغَلون والمقهورون دائما طريقا لتحسين أوضاعهم المادية والفكرية وخطوة في اتجاه تحررهم كان أصحاب النفوذ والمالكون والطبقات المهيمنة في المجتمع يرونه دائما عملية للتطويع والتأهيل ووسيلة لتخليد قيمهم وصيانة ثقافتهم واستمرار سيطرتهم الطبقية والأيديولوجية. أن الاختلاف بين هذين الطرفين يكثفه السؤال التالي:
ماذا نتعلّم ولماذا نتعلّم؟
يرى المستغّلون عموما أنه من حقهم أن يتعلّموا لاكتساب المزيد من الخبرات من أجل الحرية فهم يريدون أن يدرسوا التاريخ مثلا ليعرفوا أن سيطرة الطبقة السائدة الآن ليست سيطرة أبدية. إنهم يريدون أن يدرسوا العلوم الإقتصادية ليكتشفوا حقيقة عملية الإستغلال الممارسة ضدهم لصالح رأس المال والطبقة البرجوازية إنهم يريدون أيضا أن يدرسوا علم الاجتماع وكل العلوم الإنسانية ليتمكنوا من معرفة آليات إنتاج القمع والقهر والتهميش والاستبعاد ليقفوا ضدها وليقاوموها.إنهم يريدون أن يدرسوا العلوم الطبيّة لتكريس مبدإ الصحّة للجميع. إنهم يريدون أن يدرسوا الجغرافيا ليعرفوا أن كوكبنا هذا غني وغني جدّا ويمكن استثمار موارده بطريقة ايجابية ومستديمة في صالح كل البشر وليتمكنوا من التصدي لعمليات تدميره البطيء وليضعوا حدّا لاحتكار الأقلية الغنية صاحبة النفوذ المالي و التكنولوجي والعلمي والعسكري لموارده وثرواته. إنهم أيضا يريدون أن يدرسوا الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الأتصال والفنون والآداب والرياضة ليتمكنوا من فهم الواقع الذي يعيشون ومن ثم مقاومة جميع أشكال السيطرة و القمع و التطويع التي تمارسها المؤسسات البرجوازية والسلط المتحكّمة الآن ضدهم .
هذا هو التعليم الذي تريده الشعوب ويريده المستغَلون ويسعون إليه مدى الحياة ويعتبرونه ضرورة لا بد منها. إن تعليمنا بمثل هذه الغايات و بمثل هذه المحتويات لا يمكن أن تكرّسه المؤسسات الاستثمارية، ولا يمكن أن يموّله رأس المال وأصحاب النفوذ الأقتصادي.
إن التعليم الذي تريده البرجوازية والشركـــات الاستثمارية والرأسماليون والطبقة السائدة عموما هو تعليم للاغتراب، تعليم للتجهيل، تعليم لتأبيد آليات القمع و القهر والإذلال تعليم يوهمنا بأن رأس المال و الأحتكارات تعمل من أجلنا و لصالحنا بينما هي في الحقيقة تعمل من أجل أصحابها ومن أجل أرباحهم هم فقط.
ثورة الاتصالات تعمق الاختلاف
إن الثورة الهائلة التي حدثت في وسائل الإتصال والتي سهلت نظريا عملة التعليم والتعلّم وأتاحت وبشكل غير مسبوق إمكانية التعلّم مدى الحياة والقدرة على التعلّم الذاتي للجماهير الغفيرة قد عمقت بالفعل الاختلاف بين المستغّلين والمستغلُون حول طبيعة التعليم والهدف منه ،فالطبقة البرجوازية وأصحاب النفوذ المالي والمتحكّمون في إنتاج هذه الوسائل والدوائر المنظمة لعملية عولمة التعليم لم يغيروا من أهدافهم ولن يغيروا لا بل وظفوا هذه الوسائل وأخضعوا هذا التطور لخدمة مصالحهم ومراكمة أرباحهم. لقد حوّلوا هذه الوسائل إلى أدوات لإعادة إنتاج منظومة أفكارهم ونشر ثقافتهم وكل قيمها من أجل هدف واضح إنه إقناع " الناس" كل الناس بأهداف متناقضة مع مصالحهم الحقيقية.
إن التعليم بصفة عامة بكل أنماطه الجديدة وخصوصا الأنماط التي تروج لها دوائر عولمة التعليم [التعلم مدى الحياة ـ التعلم الذاتي ـ التعلم عن بعد ـ الجامعات الافتراضية ] هي في الحقيقة وسائل للربح أنشأتها الشركات الكبرى المحتكرة والهيئات المحلية الوكيلة لها في كل بلد لتسويق المزيد من الحواسيب والمزيد من برامج هذه الحواسيب وكل ما يتبعها من وسائط ومحتويات لتوسيع أرقام معاملاتها ومضاعفة أرباحها. وإضافة إلى أهدافها الأقتصادية تعمل هذه الشركات على تطويع المستهلك أينما كان فكرا وسلوكا وذوقا وموقفا بما تروجه من ثقافة وبما تنشره من مفاهيم ستؤدي في النهاية إلى سيطرة أنماط جديدة في السلوك والتفكير من خلال صيغ الاستهلاك وأنماط التنظيم و الإدارة التي تغزو بها هذه الشركات العالم وبفعلها سينظر المستهلكون إلى واقعهم من خلال النظرة التي ستقدّم بها هذه الشركات هذا الواقع وستحصل لهم قناعة بدونيتهم وسيستكينون ويتعايشون مع ثقافة قاهريهم ويتكيفون مع ما هو سائد ومهيمن و لا يرون أي بديل لذلك .
إن هذه الوسائط وبما تروجه تعمل على توسيع دائرة الأفكار القائلة بالتفوق الثقافي تفوق ثقافة الأقطاب المسيطرة. فهي حاملة لآرائهم وتصوراتهم وقادرة على فرضها على جمهور المستهلكين هذا الجمهور الذي تحوّل إلى مجرد مشاهد فحسب يتكيف مع كل جديد ويمعن باستمرار في الأغتراب عن الواقع. وستدفع ثقافة الغزو الإلكتروني الناس أكثر فأكثر إلى الأنزواء داخل بيوتهم أمام شاشات حواسيبهم في عزلة عن أي تفكير جماعي أو فعل جماعي إنها ثقافة فرق تسد. أو ليست التفرقة عمل من صميم أيديولوجية القهر.
إن أنماط التعليم الجديدة وبمثل الغايات والأهداف التي تنفّذ بها إلغاء للتعليم الذي تطمح إليه الجماهير الشعبية. إن أنماط التعليم التي تريدها الجماهير والشعوب وتطالب بها لا يجب أن تكون للاغتراب والتهميش والاستغلال والسيطرة، وإدخال تكنولوجيات المعلومات و الإتصال في مسارات التعلّم عملية لا بد أن يستفيد منها كل المتعلمين على قدم المساواة، والتعليم بهذه المواصفات لا يجب أن تشرف عليه وتسيره هيئات غاياتها الربح والتسويق. إننا نطالب بتعليم يكرّس محتويات علمية وعقلانية ويمكّن المنتفعين به من الخبرات اللازمة لمعالجة مشاكل واقعهم وتغييره لصالحهم. هذا هو التعليم الذي يريده أبناء الطبقات الفقيرة والمستغلة ومن أجل هذا يجب أن توظّف تكنولوجيات الإتصال و المعلومات.
بشير الحامدي ـ ديسمبر 2009